فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: إن إبراهيم كان مستقيما ولماذا جاء بكلمة {حنيفا} التي تدل على العوج؟ ونقول: لو قال: مستقيما لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد كانوا في عوج وضلال ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه {كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} وكلمة {مُّسْلِمًا} تقتضي مسلما إليه وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَمًا فيه وهو الإيمان بالمنهج.
وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد بافعل ولا تفعل وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما، ونوحا عليه السلام كان مسلما، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين.
كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بافعل ولا تفعل ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك قال الحق: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقال النصارى: هو على ديننا. فأنزل الله: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا} الآية. فأكذبهم وأدحض حجتهم.
وأخرج عن الربيع. مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: قال كعب وأصحابه ونفر من النصارى: إن إبراهيم منا، وموسى منا، والأنبياء منا. فقال الله: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا}.
وأخرج ابن جرير عن سالم بن عبدالله لا أراه إلا يحدثه عن أبيه: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود فسأله عن دينه وقال: إني لعلّي أن أدين دينكم فأخبرني عن دينكم؟ فقال له اليهودي: أنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئًا أبدًا، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه الا أن تكون حنيفًا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، وكأن لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى فسأله عن دينه؟ فقال: إنّي لعلّي أن أدين دينكم فأخبرني عن دينكم؟ قال: أنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحو ما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفًا. فخرج من عندهم وقد رضي بالذي أخبراه، والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم. فلم يزل رافعًا يديه ألى الله وقال: اللهم إني أشهدك اني على دين إبراهيم. اهـ.

.سؤال وجواب:

فإن قيل: قولكم: إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع؟ فإن كان الأول لم يكن مختصًا بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضا على دين اليهود، أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى، فكان أيضا على دين النصارى، أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقة في الفروع، فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع ألبتة، بل كان كالمقرر لدين غيره، وأيضا من المعلوم بالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجودًا في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم؟
الجواب: جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان أنه ما كان موافقًا في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا، وجاز أيضا أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع موسى، ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقًا لشرع إبراهيم عليه السلام، فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (68):

قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نفي عنه صلى الله عليه وسلم كل زيغ بعد أن نفي عنه أن يكون على ملة هو متقدم عن حدوثها شرع في بيان ما يتم به نتيجة ما مضى ببيان من هو أقرب إليه ممن جاء بعده، فقرر أن الأولى به إنما هو من اتبعه في أصل الدين، وهو التوحيد والتنزيه الذي لم يختلف فيه نبيان أصلًا، وفي الانقياد للدليل وترك المألوف من غير تلعثم حتى صاروا أحقاء بالإسلام الذي هو وصفه بقوله سبحانه وتعالى مؤكدًا ردًا عليهم وتكذيبًا لمحاجتهم: {إن أولى الناس} أي أقربهم وأحقهم {بإبراهيم للذين اتبعوه} أي في دينه من أمته وغيرهم، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم، ثم صرح بهذه الأمة فقال: {وهذا النبي} أي هو أولى الناس به {والذين آمنوا} أي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان {والله} أي بما له من صفات الكمال- وليهم، هذا الأصل، ولكنه قال: {ولي المؤمنين} ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيبًا لمن لم يبلغه في بلوغه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

وقال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان يهوديًا وما بك إلا الحسد؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{أَوْلَى} معناه أحق، قيل: بالمعونة والنصرة.
وقيل بالحجة.
{لَلَّذِينَ اتبعوه} على مِلّته وسنته.
{وهذا النبي} أفرد ذكره تعظيمًا له؛ كما قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وقد تقدّم في البقرة هذا المعنى مستوفى.
و{هذا} في موضع رفع عطف على الذين، و{النبيّ} نعت لهذا أو عطف بيان، ولو نصب لكان جائزًا في الكلام عطفًا على الهاء في {اتبعوه}.
{والله وَلِيُّ المؤمنين} أي ناصرهم.
وعن ابن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبيّ ولاة من النبيين وإن وليّي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ {إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيّ}». اهـ.

.قال في الميزان:

وفي قوله: {وهذا النبي والذين آمنوا} إفراد للنبى عليه السلام ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم إجلالا للنبي وصونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك مثل قوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده} [الأنعام- 90] حيث لم يقل فبهم اقتده. اهـ.

.قال أبو حيان:

قيل: وجمعت هذه الآيات من البلاغة: التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد، وبالفصل في قوله: {إن هذا لهو القصص الحق} وفي: {وإنّ الله لهو العزيز} والإختصاص في: {عليم بالمفسدين} وفي: {وليّ المؤمنين} والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في: {إلى كلمة سواء} وباطلاق اسم الجنس على نوعه في: {يا أهل الكتاب} إذا فسر باليهود.
والتكرار في: إلا الله، و: إنّ الله، وفي: يا أهل الكتاب تعالوا، يا أهل الكتاب لم.
وفي: إبراهيم، و: ما كان إبراهيم، و: إن أولى الناس بإبراهيم.
والتشبيه في: أربابًا، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم، وأذعنوا إليهم أطلق عليه: أربابًا تشبيهًا بالرب المستحق للعبادة والربوبية، والإجمال في الخطاب في: يا أهل الكتاب، تعالوا يا أهل الكتاب، لم تحاجون، كقول إبراهيم: يا أبت.
يا أبت وكقول الشاعر:
مهلًا بني عمنا مهلًا موالينا ** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونًا

وقول الآخر:
بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا ** فكم من رماد صار منه لهيب

والتجنيس المماثل في: أولى وولي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

لما تفرقت الأهواء والبدع وصار كل حزب إلى خطأ آخر، بقي أهل الحقِّ في كل عصر وكل حين ووقت على الحجة المثلى، فكانوا حزبًا واحدًا، فبعضهم أَوْلى ببعض. وإبراهيم صاحب الحق، ومن دان بدينه- كمثل رسولنا صلى الله عليه وسلم وأمته- على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.
{وَاللهُ وَلِىُّ المُؤْمِنِينَ} لأنهم تولَّوْا دينه، ووافقوا توحيده، وولاية الله إنما تكون بالعَوْن والنصرة والتخصيص والقربة. اهـ.

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} {أُوْلِى} أفعل تفضيل من وليه يليه وليًا وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واو فلا تكون لامه واوًا إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو، وأصل معناه أقرب، ومنه ما في الحديث: «لأولى رجل ذكر» ويكون بمعنى أحق كما تقول: العالم أولى بالتقديم، وهو المراد هنا أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم {لَلَّذِينَ اتبعوه} أي كانوا على شريعته في زمانه، أو اتبعوه مطلقًا فالعطف في قوله سبحانه: {وهذا النبى} من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي هو خبر إن وقرئ بالنصب عطفًا على الضمير المفعول، والتقدير للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي وقرئ بالجر عطفًا على إبراهيم أي إن أولى الناس بإبراهيم، وهذا النبي للذين اتبعوه واعترض بأنه كان ينبغي أن يثني ضمير {اتبعوه} ويقال اتبعوهما، وأجيب بأنه من باب {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وقوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ} إن كان عطفًا على الذين اتبعوه يكون فيه ذلك أيضا، وإن كان عطفًا على هذا النبي فلا فائدة فيه إلا أن يدعى أنها للتنويه بذكرهم، وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى، ثم إن كون المتبعين لإبراهيم عليه السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر، وكون نبينا صلى الله عليه وسلم أولاهم به لموافقة شريعته للشريعة الإبراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها، وكون المؤمنين من هذه الأمة كذلك لتبعيتهم نبيهم فيماجاء به ومنه الموافق.
{والله وَلِىُّ المؤمنين} ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي، ولم يقل وليهم تنبيهًا على الوصف الذي يكون الله تعالى به وليًا لعباده وهو الإيمان بناءًا على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق. ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهوديًا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ}.
لَمَّا بَيَّنَ- جَلَّ شَأْنُهُ- الْقَصَصَ الْحَقَّ فِي شَأْنِ عِيسَى وَالْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى الْغَالِبِينَ فِيهِ بِجَعْلِهِ رَبًّا وَإِلَهًا، ثُمَّ أَلْزَمَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوِجْدَانِ أَوِ الضَّمِيرِ- كَمَا يُقَالُ- بِمَا دَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ اتِّبَاعُهُ فِي الإيمان، وَذَلِكَ قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ انْقِطَاعُ حِجَاجِ الْمُكَابِرِينَ، وَدَلَّ نُكُولُهُمْ عَنْهَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَفَاقِدُ الْيَقِينِ يَتَزَلْزَلُ عِنْدَمَا يُدْعَى إِلَى شَيْءٍ يَخَافُ عَاقِبَتَهُ، فَلَمَّا نَكَلُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرُوحُهُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ سَوَاءٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ عَدْلٌ وَوَسَطٌ لَا يَرْجَحُ فِيهِ طَرَفٌ آخَرَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} أَقُولُ: الْمُرَادُ بِهَذَا تَقْرِيرُ وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُوَحِّدًا صِرْفًا، وَقَدْ كَانَ الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ لِشَرِيعَةِ مُوسَى قَوْلُ اللهِ لَهُ: إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى. أَمَامِي لَا تَصْنَعُ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِ، وَمِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ، وَمِمَّا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ وعَلَى هَذَا دَرَجَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إسرائيل حَتَّى الْمَسِيحُ- عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَنْقُلُونَ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قوله: (يَرَ 17: 3) وهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ وغَيْرُ ذَاكَ مِنْ عِبَارَاتِ التَّوْحِيدِ، وَكَانَ يَحْتَجُّ عَلَى الْيَهُودِ بِعَدَمِ إِقَامَتِهِمْ نَامُوسَ مُوسَى (شَرِيعَتَهُ) وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ إِلَّا بَعْضَ الرُّسُومِ الظَّاهِرَةِ وَالتَّشْدِيدَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَمَّا الْوَصَايَا الْعَشْرُ- وَرَأْسُهَا التَّوْحِيدُ وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ- فَلَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا شَيْئًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّنَا نَحْنُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ أَنَّ الْعَالَمَ مِنْ صُنْعِ إِلَهٍ وَاحِدٍ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُنَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ. فَتَعَالَوْا بِنَا نَتَّفِقُ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَرَفْضِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهَا، حَتَّى إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ فِيمَا جَاءَكُمْ مِنْ نَبَأِ الْمَسِيحِ شَيْئًا فِيهِ لَفْظُ ابْنِ اللهِ خَرَّجْنَاهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ الثَّابِتَ الْعَامَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ. فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ أنه ابْنُ اللهِ، قُلْنَا: هَلْ فَسَّرَ هَذَا الْقَوْلَ بأنه إِلَهٌ يُعْبَدُ؟ وَهَلْ دَعَا إِلَى عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ أَمْ كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ؟ لَا شَكَّ أَنَّكُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أنه كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَلَامَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ أَوِ الْمَجَازِ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَمَّيَاتِ وَالْأَلْغَازِ، حَتَّى إِنَّ تَلَامِيذَهُ لَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُوهُ إِلَّا بَعْدَ تَفْسِيرِهِ، وَلَقَدْ كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ يَتَأَخَّرُ أَحْيَانًا إِلَى أَمَدٍ بَعِيدٍ، وَلَفْظُ ابْنِ اللهِ أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ عَلَى إسرائيل وَغَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا. أَمَّا هَذِهِ النَّزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى الدِّينِ فَقَدْ دَخَلَتْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ لِوَاضِعِيهَا سَنَدٌ مِنْ كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا يُرَوِّجُونَهَا بِأَقْيِسَةٍ بَاطِلَةٍ جَرَى عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ كَقَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [39: 3] وَقَوْلِهِمْ: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [10: 18] قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ قَرَّرَتْ وَحْدَانِيَّةَ الْأُلُوهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأَمَّا وَحْدَانِيَّةُ الْأُلُوهِيَّةِ فَهِيَ قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ} وَأَكَّدَهُ بِقوله: {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} وَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي تُولَهُ الْعُقُولُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَتَدْعُوهُ وَتَصْمُدُ إِلَيْهِ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا وَحْدَانِيَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَهِيَ قوله: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} فَالرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ الْمُرَبِّي الَّذِي يُطَاعُ فِيمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبأنهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [9: 31] فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَيُحَرِّمُونَ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّونَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى. وَسُئِلَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه عَنِ الْآيَةِ؟ فَأَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.